الفكرة أولاً- النهضة بين السياسة وأوهامها عند مالك بن نبي

المؤلف: د. عبد الرزاق مقري10.27.2025
الفكرة أولاً- النهضة بين السياسة وأوهامها عند مالك بن نبي

في مستهل حديثه عن السياسة والفكر، استهل مالك بن نبي كتابه "شروط النهضة" بعبارة آسرة، مؤكدًا على قوة الكلمة المنبثقة من روح القدس، ودورها الجوهري في تشكيل الظواهر الاجتماعية. فالكلمة، كما يرى، تملك تأثيرًا عميقًا في وجدان الفرد، إذ تخترق شغاف قلبه، وتستقر معانيها فيه، محولةً إياه إلى إنسان يحمل مبدأ ورسالة. فالكلمة التي يطلقها إنسان، قادرة على أن تصبح قوة دافعة في المجتمع، قادرة على إحداث عواصف تعصف بالأوضاع العالمية القائمة وتغيرها.

أوهام السياسة

وقد استدل مالك بن نبي على قوة الفكرة وتأثيرها في مجتمعه بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مشيرًا إلى أن "معجزة البعث" قد انطلقت من كلمات بن باديس، لتعلن عن ساعة اليقظة. وبدأ الشعب الجزائري الذي غلبه الخمول في التحرك، في يقظة بهيّة مباركة. يقظة شعب كانت عيناه مثقلتين بالنوم، حتى تشرب قلبه نزعة التغيير، وأصبحت أحاديثه تتخذها شريعة ومنهاجًا، وهكذا استيقظ الوعي الجمعي، وتحولت مناجاة الفرد إلى حديث الشعب.

ثم تعدت تلك اليقظة حدود الوعي الجمعي، لتثمر ثورة نوفمبر/تشرين الثاني المباركة. فكانت ثورة نوفمبر مستندة على الكلمات الواردة في البيان الأول الذي صدر في هذا الشهر من عام 1954. ذلك البيان الذي نادى بتحقيق الاستقلال ضمن إطار من الحرية والتضامن الاجتماعي والمبادئ الإسلامية، وتحقيق وحدة الأمة من الشمال الأفريقي، وصولًا إلى إطاره الطبيعي العربي الإسلامي، ولا تزال المسيرة مستمرة، تتجاوز مكائد الاستعمار وأعوانه.

إن هذه الحركات الإحيائية قد انطلقت من مبدأ أساسي، وهو أن بناء الحضارة، بوصفها ظاهرة اجتماعية، لا يتحقق إلا في الظروف والشروط التي نشأت فيها الحضارة الأولى، في بيئة المدينة المنورة، كما يرى بن نبي. فإذا استمرت الفكرة في خلق تلك الظروف، فلا بد للحضارة من أن تشرق من جديد، وإذا تبعت الفكرة السياسات والمؤسسات والأطر والهياكل والمناهج، ولم تنفصل عنها أبدًا مهما بلغت الصعوبات والتحديات، فإنها ستبلغ غايتها السامية نحو انبلاج فجر جديد.

ومع ذلك، انتقد بن نبي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي اعتبر أنها قد نهضت بالمجتمع الجزائري نهضة عظيمة في عقد واحد فقط من الزمن، مهيئةً الأفراد والمجتمع للتحرر من نير الاستعمار، فقد انتقد انخراط الجمعية في "أوهام السياسة" وانحرافها عن جوهر فكرتها، وذلك عندما شاركت في مطالبة الاستعمار بالإصلاحات والحقوق في المؤتمر الإسلامي عام 1936، جنبًا إلى جنب مع نخب سياسية تخلو من الرؤية الحضارية والتوجه الثقافي، ولا تسعى إلا لتحسين أوضاعها تحت ظل الاستعمار.

اغتيال الإصلاح

لم يوجه بن نبي اتهامًا لقادة جمعية العلماء في مقاصدهم، ولكنه أعرب عن أسفه لزلّة العلماء التي وصفها بالنزيهة، نظرًا لما اتسمت به من نية طاهرة وقصد بريء، وذلك عندما سمحوا عام 1936 بسقوط الفكرة الإصلاحية في شباك الوعود التي قدمتها الحكومة الفرنسية اليسارية بسخاء، بينما كانت تعمل في الحقيقة على وأد الإصلاح.

وفي الوقت الراهن، يمكن توجيه نفس الانتقادات التي وجهها بن نبي لجمعية العلماء المسلمين في أواخر الثلاثينيات، إلى الحركات الإحيائية في التيار الإسلامي، التي أحيت الأمة وصنعت صحوة شعوبها في أواخر القرن الماضي. فبدلًا من أن تنخرط تلك الحركات في معترك السياسة حاملةً فكرتها، انخرط الكثير منها في التنافس على الانتقال من ساحات الدعوة في المجتمع إلى مؤسسات الدولة الحديثة، دون الالتزام بالفكرة التي تميزها، وأصبح جلّ اهتمام قادتها يتمحور حول الحصول على مساحة ضئيلة في الوجود السياسي ضمن عملية ديمقراطية زائفة لا تتيح لهم تحقيق التغيير المنشود، حتى لو استمروا على هذا المنوال مئة عام قادمة.

وفي ظل هذا المنظور السياسي البراغماتي الجديد، أصبح الوجه البارز، وربما الوحيد، لتلك الحركات هو الوجه الحزبي المندمج في المنظومة الفكرية الحضارية الغربية المهيمنة في بلداننا وفي العالم بأسره، وفي أحسن الأحوال، وجه أحزاب محافظة تهتم بمظاهر الهوية وقوانين الأحوال الشخصية، دون أن تتبنى مشاريع جادة لعبور الفكرة إلى مستوى النهضة الحضارية للأمة الإسلامية.

"علم الأفكار"

لقد ظهرت أصوات ماكرة بعد سيطرة الرأسمالية العالمية، تدعو القوى الإسلامية إلى التخلي عن "الأيديولوجية" والتركيز على مصالح الناس فقط في الممارسة السياسية، وما تلك الدعوة إلا محاولة لإزاحة جميع الأيديولوجيات، لتبقى أيديولوجية واحدة مهيمنة، وهي أيديولوجية الرأسمالية التي أهدرت مصالح أغلبية سكان المعمورة لصالح قلة قليلة استحوذت على معظم خيرات الأرض.

وإذا كان معنى كلمة "الأيديولوجية" هو "علم الأفكار"، فكيف يُتصور ألا تكون الفكرة سابقةً للسياسة؟ لقد أدى تجريم علم الأفكار إلى أن أصبحت الأحزاب في العالم متقاربة في مساحة أُطلق عليها زورًا اسم الوسط أو "الوسطية"، ببرامج متشابهة، ينتخبها الناخبون ظاهريًا، ولكن تتحكم فيها قوى خفية وغير مسؤولة، وهي القوى المالية والعسكرية والشركات الكبرى وجماعات الضغط التابعة للأقليات المتمكنة.

تستولي القوى الخفية على السلطة الحقيقية، بينما تتهافت القوى الحزبية البارزة على فتات المقاعد البرلمانية والوزارات والمصالح، فلا تسمع في النقاش السياسي شيئًا عن الأفكار والتوجهات الحضارية، وكيفية الحفاظ على الكرامة الإنسانية، ولا تسمع شيئًا عن طبيعة الدولة المنشودة، ولا عن الرؤى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعارض أيديولوجية السوق، وبرامج إطلاق الغرائز التي تحبط الفضيلة، وأما أزمات الشعوب فعلاجها الوعود الانتخابية، أو تعميق الأزمات لوضع طموحات الناس في مستوياتها المتدنية.

إن ابتعاد المصلحين عن فكرتهم، بعد طول الطريق، يفقدّهم المبادرة، فيغتنمها الأكثر جرأة منهم، حتى لو كانوا يفتقرون إلى الأفكار الحضارية، فيطول شقاء الأمة، في ظل الدولة الحديثة التي باتت تشقى تحت سلطانها الدوغمائي كل البشرية.

لا شيء يجب أن يحافظ عليه قادة حركات الإحياء الإسلامي أكثر من الفكرة التي قامت عليها حركتهم، والتي وحدها تتناسب مع أسس المجتمع الذي نشأوا فيه، وإلا أصبحت أحاديثهم فارغة لا معنى لها مهما كانت مزخرفة، وصدق بن نبي حين قال: "ومن الواضح أن السياسة التي تجهل قواعد الاجتماع وأسسه، لا تستطيع إلا أن تكون دولة تقوم على العاطفة في تدبير شؤونها، وتستعين بالكلمات الجوفاء في تأسيس سلطانها". ولعل صدمة "الطوفان" تصلح الأوضاع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة